فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن؛ هذه الآية في انتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة، ولم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم غَزْوٌ يُرابط فيه؛ رواه الحاكم أبو عبد الله في صحيحه.
واحتج أبو سلمة بقوله عليه السَّلام: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخُطا إلى المساجد وانتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة فذلكم الرباط» ثلاثًا؛ رواه مالك.
قال ابن عطية؛ والقول الصحيح هو أن الرباط (هو) الملازمة في سبيل الله.
أصلها من ربط الخيل، ثم سُمِّي كل ملازم لِثغَرْ من ثُغُور الإسلام مرابطًا، فارِسًا كان أو راجلًا.
واللفظ مأخوذ من الربط.
وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم «فذلكم الرّباط» إنما هو تَشْبِيهٌ بالرباط في سبيل الله.
والرّباط اللغويّ هو الأول؛ وهذا كقوله: «ليس الشديد بالصُّرَعة» وقوله: «ليس المسكين بهذا الطواف» إلى غير ذلك.
قلت: قوله: والرباط اللغوي هو الأوّل ليس بمسلّم، فإن الخليل بن أحمد أحد أئمّة اللغة وثقاتها قد قال: الرِّبَاط ملازمة الثغور، ومواظبة الصَّلاة أيضا، فقد حصل أن انتظار الصَّلاة رِباط لغويّ حقيقة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم.
وأكثر من هذا ما قاله الشيباني أنه يُقال: ماءٌ مترابطٌ أي دائم لا يَنْزَحُ؛ حكاه ابن فارس، وهو يقتضي تعدية الرباط لغة إلى غير ما ذكرناه.
فإن المرابطة عند العرب: العقد على الشيء حتى لا ينحل، فيعود إلى ما كان صبر عنه، فيحبس القلب على النية الحسنة والجسم على فعل الطاعة.
ومن أعظمها وأهمها ارتباط الخيل في سبيل الله كما نص عليه في التنزيل في قوله: {وَمِن رِّبَاطِ الخيل} على ما يأتي.
وارتباط النفس على الصلوات كما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ رواه أبو هريرة وجابر وعليّ، ولا عِطْرَ بعد عَرُوسٍ.
المرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يَشْخَص إلى ثغْر من الثُّغور ليرابط فيه مدةً مَا؛ قاله محمد بن الموّاز (ورواه).
وأما سُكّان الثّغور دائمًا بأهليهم الذين يعمرون ويكتسبون هنالك، فهم وإن كانوا حُماة فليسوا بمرابطين. قاله ابن عطية.
وقال ابن خُوَيْزِ مَنْدَاد: وللرِّباط حالتان: حالة يكون الثَّغر مأمونًا مَنيعًا يجوز سكناه بالأهل والولد.
وإن كان غير مأمون جاز أن يرابط فيه بنفسه إذا كان من أهل القتال، ولا ينقل إليه الأهل والولدَ لئلا يظهر العدوّ فيَسبِي ويسترِقّ، والله أعلم.
جاء في فضل الرِّباط أحاديث كثيرة، منها ما رواه البخاريّ عن سهل بن سَعد السَّاعِديّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رِباطُ يومٍ في سبيل الله خيرٌ عند الله مِن الدنيا وما فيها».
وفي صحيح مُسلم عن سَلمان قال؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «رِباطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيام شهر وقيامِه وإن مات جَرَى عليه عملُه الذي كان يعمله وأُجْرِي عليه رزقه وأمِن الفُتّان» وروى أبو داود في سُننه عن فَضَالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلّ مَيِّت يُختم على عمله إلاَّ المرابط فإنه يَنْمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فَتّان القبر» وفي هذين الحديثين دليل على أن الرباط أفضل الأعمال التي يبقى ثوابها بعد الموت.
كما جاء في حديث العَلاء بن عبد الرّحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عملُه إلاَّ من ثلاثة إلاَّ من صدقةٍ جاريةٍ أو علمٍ يُنتفع به أو ولدٍ صالح يدعو له» وهو حديث صحيح انفرد بإخراجه مسلم؛ فإن الصدقة الجارية والعلم المنتفع به والولد الصالح الذي يدعو لأبويه ينقطع ذلك بنفاد الصدقات وذهابِ العلم وموتِ الولد.
والرباط يُضاعف أجرهُ إلى يوم القيامة؛ لأنه لا معنى للنّماء إلاَّ المضاعفة، وهي غير موقوفة على سبب فتنقطع بانقطاعه، بل هي فضلٌ دائم من الله تعالى إلى يوم القيامة.
وهذا لأن أعمال البِرّ كلّها لا يُتمكنّ منها إلاَّ بالسلامة من العدوّ والتحرُّز منه بحراسة بَيْضَة الدِّين وإقامة شعائر الإسلام.
وهذا العمل الذي يجري عليه ثوابه هو ما كان يعمله من الأعمال الصالحة.
خرّجه ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات مرابطًا في سبيل الله أَجْرى عليه أجرَ عملهِ الصالِح الذي كان يعمل وأَجْرَى عليه رزقه وأُمِنَ من الفُتّان وبعثه الله يوم القيامة آمنًا من الفزع» وفي هذا الحديث قيدٌ ثان وهو الموت حالة الرّباط، والله أعلم.
ورُوي عن عثمان بن عفّان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رابط ليلة في سبيل الله كانت له كألف ليلة صيامِها وقيامها» ورُوي عن أُبيّ بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَرباط يوم في سبيل الله من وراء عَورة المسلمين مُحتسبًا من غير شهر رمضان أعظمُ أجرًا من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها ورباطُ يومٍ في سبيل الله من وراء عورة المسلمين مُحتسِبًا من شهر رمضان أفضلُ عند الله وأعظم أجرًا أراه قال: من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها فإن ردّه الله إلى أهله سالمًا لم تكتب عليه سيئة ألف سنة وتكتب له الحسنات ويُجرَي له أجرُ الرّباط إلى يوم القيامة» ودلّ هذا الحديث على أن رِباط يوم في شهر رمضان يحصل له من الثواب الدّائم وإن لم يمت مرابطًا، والله أعلم.
وعن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «حَرْس ليلة في سبيل الله أفضلُ من صيام رجل وقيامه في أهله ألف سنةٍ السّنة ثلاثمائة يوم (وستون يومًا) واليوم كألف سنة».
قلت: وجاء في انتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة أنه رِباط؛ فقد يحصل لِمُنْتظِرِ الصلواتِ ذلك الفضل إن شاء الله تعالى.
وقد روى أبو نعيم الحافظ قال حدّثنا سليمان بن أحمد قال حدّثنا علي بن عبد العزيز قال حدّثنا حَجّاج بن المِنْهال وحدّثنا أبو بكر بن مالك قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدّثني أبي قال حدّثني الحسن بن موسى قال حدّثنا حماد بن سلمة عن ثابت البُنَانِيّ عن أبي أيوب الأزدي عن نَوْفِ البِكَالِيّ عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى ذات ليلةٍ المغرب فصلّينا معه فعقب من عقب ورجع من رجع.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يثوب الناس لصَّلاة العشاء، فجاء وقد حضره الناس رافعًا أصبعَه وقد عقد تِسعًا وعشرين يُشير بالسبّابة إلى السماء فَحَسَر ثوبه عن ركبتيه وهو يقول: «أبشروا مَعشرَ المسلمين هذا ربُّكم قد فتح بابًا من أبواب السماء يُباهي بكم الملائكةَ يقول يا ملائكتي انظروا إلى عبادي هؤلاء قضَوْا فريضةً وهم ينتظرون أخرى» ورواه حَمّاد بن سلمة عن عليّ بن زيد عن مُطرِّف بن عبد الله: أن نَوْفا وعبد الله بن عمرو اجتمعا فحدّث نَوْفٌ عن التوراة وحدّث عبد الله بن عمرو بهذا الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
{واتقوا الله} أي لم تؤمروا بالجهاد من غير تقوى.
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لتكونوا على رجاء من الفلاح.
وقيل: لعل بمعنى لِكي.
والفلاح البقاء، وقد مضى هذا كله في البقرة مستوفى، والحمد لله. اهـ. بتصرف يسير.

.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الأولى:
فِي شَرْحِ أَلْفَاظِهَا: الصَّبْرُ: عِبَارَةٌ عَنْ حَبْسِ النَّفْسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا، وَالْمُصَابَرَةُ: إدَامَةُ مُخَالَفَتِهَا فِي ذَلِكَ؛ فَهِيَ تَدْعُو وَهُوَ يَنْزِعُ.
وَالْمُرَابَطَةُ: الْعَقْدُ عَلَى الشَّيْءِ حَتَّى لَا يَبْخَلَ فَيَعُودَ إلَى مَا كَانَ صَبَرَ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
فِي الْأَقْوَالِ: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: اصْبِرُوا عَلَى دِينِكُمْ، وَصَابِرُوا وَعْدِي لَكُمْ، وَرَابِطُوا أَعْدَاءَكُمْ.
الثَّانِي: اصْبِرُوا عَلَى الْجِهَادِ، وَصَابِرُوا الْعَدُوَّ، وَرَابِطُوا الْخَيْلَ.
الثَّالِثُ: مِثْلُهُ إلَّا قوله: {رَابِطُوا} فَإِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ رَابِطُوا الصَّلَوَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
فِي حَقِيقَةِ ذَلِكَ: وَهُوَ أَنَّ الصَّبْرَ: حَبْسُ النَّفْسِ عَنْ مَكْرُوهِهَا الْمُخْتَصِّ بِهَا وَالْمُصَابَرَةُ: حَمْلُ مَكْرُوهٍ يَكُونُ بِهَا وَبِغَيْرِهَا؛ الْأَوَّلُ كَالْمَرَضِ، وَالثَّانِي كَالْجِهَادِ.
وَالرِّبَاطُ: حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى النِّيَّةِ الْحَسَنَةِ وَالْجِسْمِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ، وَمِنْ أَعْظَمِهِ ارْتِبَاطُ الْخَيْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَارْتِبَاطُ النَّفْسِ عَلَى الصَّلَوَاتِ، عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ؛ فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ.
وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ فَهِيَ لَهُ أَجْرٌ»
.
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ: إسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ ثَلَاثًا».
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَوْلَاهُ وَأَفْضَلَهُ فِي نَوْعَيْ الطَّاعَةِ الْمُتَعَدِّي بِالْمَنْفَعَةِ إلَى الْغَيْرِ وَهُوَ الْأَفْضَلُ، وَإِلْزَامُ الْمُخْتَصِّ بِالْفَاعِلِ وَهُوَ دُونَهُ، وَبَعْدَ ذَلِكَ تَتَفَاضَلُ الْعَقَائِدُ وَالْأَعْمَالُ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ فَنَفِيضُ مِنْهُ. اهـ.

.قال الألوسي:

قال رحمه الله:
لما بين سبحانه في تضاعيف هذه السورة الكريمة ما بين من الحكم والأحكام وشرح أحوال المؤمنين والكافرين وما قاساه المؤمنون الكرام من أولئك اللئام من الآلام ختم السورة بما يضوع منه مسك التمسك بما مضى، ويضيع بامتثال ما فيه مكايد الأعداء ولو ضاق لها الفضا.
بم فقال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اصبروا} أي احبسوا نفوسكم عن الجزع مما ينالها، والظاهر أن المراد الأمر بما يعم أقسام الصبر الثلاثة المتفاوتة في الدرجة الواردة في الخبر، وهو الصبر على المصيبة والصبر على الطاعة والصبر عن المعصية {وَصَابِرُواْ} أي اصبروا على شدائد الحرب مع أعداء الله تعالى صبرًا أكثر من صبرهم، وذكره بعد الأمر بالصبر العام لأنه أشدّ فيكون أفضل، فالعطف كعطف جبريل على الملائكة والصلاة الوسطى على الصلوات، وهذا وإن آل إلى الأمر بالجهاد إلا أنه أبلغ منه.
{وَرَابِطُواْ} أي أقيموا في الثغور رابطين خيولكم فيها حابسين لها مترصدين للغزو مستعدين له بالغين في ذلك المبلغ الأوفى أكثر من أعدائكم، والمرابطة أيضا نوع من الصبر، فالعطف هنا كالعطف السابق.
وقد أخرج الشيخان عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها»، وأخرج ابن ماجه بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات مرابطًا في سبيل الله تعالى أجرى عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان وبعثه الله تعالى آمنًا من الفزع»، وأخرج الطبراني بسند لا بأس به عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رابط يومًا في سبيل الله تعالى جعل الله تعالى بينه وبين النار سبع خنادق كل خندق كسبع سموات وسبع أرضين»، وأخرج أبو الشيخ عن أنس مرفوعًا «الصلاة بأرض الرباط بألف ألفي صلاة» وروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن الرباط أفضل من الجهاد لأنه حقن دماء المسلمين والجهاد سفك دماء المشركين.
{واتقوا الله} في مخالفة أمره على الإطلاق فيندرج فيه جميع ما مرّ اندرجا أوليًا.
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لكي تظفروا وتفوزوا بنيل المنية ودرك البغية والوصول إلى النجح في الطلبة وذلك حقيقة الفلاح، وهذه الآية على ما سمعت مشتملة على ما يرشد المؤمن إلى ما فيه مصلحة الدين والدنيا ويرقى به إلى الذروة العليا، وقرر ذلك بعضهم بأن أحوال الإنسان قسمان: الأول: ما يتعلق به وحده، والثاني: ما يتعلق به من حيث المشاركة مع أهل المنزل والمدينة، وقد أمر سبحانه نظرًا إلى الأول بالصبر ويندرج فيه الصبر على مشقة النظر، والاستدلال في معرفة التوحيد والنبوة والمعاد، والصبر على أداء الواجبات والمندوبات والاحتراز عن المنهيات والصبر على شدائد الدنيا وآفاتها ومخاوفها، وأمر نظرًا إلى الثاني بالمصابرة ويدخل فيها تحمل الأخلاق الردية من الأقارب والأجانب وترك الانتقام منهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد مع أعداء الدين باللسان والسنان، ثم أنه لما كان تكليف الإنسان بما ذكر لابد له من إصلاح القوى النفسانية الباعثة على أضداد ذلك أمره سبحانه بالمرابطة أعم من أن تكون مرابطة ثغر أو نفس، ثم لما كانت ملاحظة الحق جل وعلا لابد منها في جميع الأعمال والأقوال حتى يكون معتدًا بها أمر سبحانه بالتقوى، ثم لما تمت وظائف العبودية ختم الكلام بوظيفة الربوبية وهو رجاء الفلاح منه انتهى، ولا يخفى أنه على ما فيه تمحل ظاهر وتعسف لا ينكره إلا مكابر، وأولى منه أن يقال: أنه تعالى أمر بالصبر العام أولًا لأنه كما في الخبز بمنزلة الرأس من الجسد وهو مفتاح الفرج.
وقال بعضهم: لكل شيء جوهر وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر، وادعى غير واحد أن جميع المراتب العلية والمراقي السنية الدينية والدنيوية لا تنال إلا بالصبر، ومن هنا قال الشاعر:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى ** فما انقادت الآمال إلا لصابر

ثم أنه تعالى أمر ثانيًا بنوع خاص من الصبر وهي المجاهدة التي يحصل بها النفع العام والعز التام، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تركتم الجهاد سلط الله تعالى عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» ثم ترقى إلى نوع آخر من ذلك هو أعلى وأغلى وهو المرابطة التي هي الإقامة في ثغر لدفع سوء مترقب ممن وراءه، ثم أمر سبحانه آخر الأمر بالتقوى العامة إذ لولاها لأوشك أن يخالط تلك الأشياء شيء من الرياء والعجب، ورؤية غير الله سبحانه فيفسدها، وبهذا تم المعجون الذي يبرئ العلة وروق الشراب الذي يروي الغلة.
ومن هنا عقب ذلك بقوله عز شأنه: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وهذا مبني على ما هو المشهور في تفسير الآية، وقد روي في بعض الآثار غير ذلك، فقد أخرج ابن مردويه عن سلمة بن عبد الرحمن قال: أقبل عليَّ أبو هريرة يومًا فقال: أتدري يا ابن أخي فيم أنزلت هذه الآية: {الحساب يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اصبروا} الخ؟ قلت: لا قال: أما أنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد يصلون الصلاة في مواقيتها ثم يذكرون الله تعالى فيها، ففيهم أنزلت أي اصبروا على الصلوات الخمس وصابروا أنفسكم وهواكم ورابطوا في مساجدكم واتقوا الله فيما علمكم لعلكم تفلحون، وأخرج مالك والشافعي وأحمد ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بما يمحو الله تعالى به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطأ إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط».
ولعل هذه الرواية عن أبي هريرة أصح من الرواية الأولى مع ما في الحكم فيها بأنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه من البعد بل لا يكاد يسلم ذلك له؛ ثم إن هذه الرواية وإن كانت صحيحة لا تنافي التفسير المشهور لجواز أن تكون اللام في الرباط فيها للعهد، ويراد به الرباط في سبيل الله تعالى ويكون قوله عليه السلام: «فذلكم الرباط» من قبيل زيد أسد، والمراد تشبيه ذلك بالرباط على وجه المبالغة.
وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن أسلم أن المراد اصبروا على الجهاد وصابروا عدوكم ورابطوا على دينكم، وعن الحسن أنه قال: اصبروا على المصيبة وصابروا على الصلوات ورابطوا في لجهاد في سبيل الله تعالى، وعن قتادة أنه قال: اصبروا على طاعة الله تعالى وصابروا أهل الضلال ورابطوا في سبيل الله، وهو قريب من الأول، والأول أولى. اهـ.